- السيرة / ٠3سيرة الصحابة
- /
- ٠2رجال حول الرسول
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
كيف ندرس السيرة , وما هي الثمرة التي يمكن أن نقطفها منها ؟
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني من دروس السيرة, والصحابي اليوم سيدنا عبد الله بن مسعود، وقبل أن نبدأ بعرض سيرته وتعبُّده وفضائله وزهده وأقواله لا بد من وقفة قصيرة حول موضوع السيرة .
أيها الأخوة الأكارم، السيرة شيئان: وقائع ونصوص, وتحليل ودراسات، والأمر الذي نحن في أمسِّ الحاجة إليه أن نجمع بين النص و التحليل، وبين النص والاستنباط، وبين النص واستنباط القاعدة، تُلقي الضوء على حياتنا اليومية .
إذاً: كما نعتني بالنص الذي ورد في كتب السيرة نعتني بالتحليل والاستنباط؛ لأن هذا التحليل والاستنباط يعطينا قانونًا وسنة، أو قاعدة تنير لنا السبيل في الدنيا .
والشيء الآخر, يجب أن نعتقد جميعًا أن الله جل جلاله هو هو, يعني أن القوانين التي سنَّها، والقواعد التي قعَّدها، والوُعود التي قطعها، والبشارات التي بشَّر بها هي هي، فهي لأيِّ مؤمن في أيِّ زمانٍ ومكان، فالشيء الذي ناله أصْحاب رسول الله من الله عز وجل شيءٌ ثمينٌ، لكنّ الإله موجود، فالذي نصرهم ينصرنا، والذي أعْطاهم يُعْطينا، والذي أسْعدهم يُسْعِدنا، والذي أغْناهم يُغْنينا، والذي رفعهم يرْفعنا، المفْهوم التاريخي للدين مفْهوم غير صحيح، يقولون: إنّ الدِّين ظاهِرَةٌ ظهرت وانْتَهَت، لا، بل ظهرتْ وتَسْتَمرّ، فإذا أخذ المرءُ بِقَواعد الدِّين قطف ثِماره، وما أردتُ من درْس السيرة إلا تأكيد هذه الحقيقة .
لمحة قصيرة عن سيرة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود :
أيها الأخوة, سيّدنا عبد الله بن مسْعود كانَ ماهِراً في القرآن، والقرآن موجود بين أيدينا ، وبِإمْكانك أنْ تكون ماهِراً فيه، وأن تَحْفَظه، وأن تفْهمه، وأنْ تعمل به، وأن تقطِفَ ثِماره، فهذه المُقَدِّمة مُهِمَّة، نحن على أبواب البُطولة، فإما أنْ نُقْدم، وإما أنْ نُحْجِم، وإما أن نُبادر، وإما أن نتردّد .
هذا الصحابيُّ الجليل يُكْنى أبا عبد الرحمن، وأُمُّهُ أُمُّ عبْد، أسْلم قبل دُخول النبي عليه الصلاة والسلام دارَ الأرقم، أيْ أسْلم في وقْتٍ مُبَكِّر، وقال: كُنْتُ سادس المُسْلمين، أيْ سادِسَ من أسْلم من المُسلمين، وهاجر إلى الحبشة الهِجْرَتين، وشهِد بدْراً والمشاهد كُلَّها، وكان صاحب سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وصاحِبَ وِسادته وسِواكِهِ وطُهوره في سفره، وكان يُشْبه النبي عليه الصلاة والسلام في هَدْيِه وسَمْتِه، وكان خفيف اللحم، قصيراً، شديدَ الأَدَمَة، وكان من أجْود الناس ثَوْباً، ومن أطْيَبِ الناس ريحاً، وُلِيَّ قضاء الكوفة وبَيْتَ المال لعُمَر، وصدْراً من خلافة عُثمان، ثمّ صار إلى المدينة فَماتَ بها سنة اثْنَتَيْن وثلاثين، ودُفِنَ بِالبقيع وهو ابنُ بِضْعٍ وسِتين .
إليكم هذا الموقف لابن مسعود تشهد له بالخيرية أيام الجاهلية :
عن عبد الله بن مسْعود صاحب الترجمة رضي الله عنه، قال:
((كُنْتُ غُلاماً يافِعاً أرْعى غَنَماً لِعُقْبَةَ بن أبي مُعيط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ، وقد نفرَا من المُشْركين، فقال : يا غُلام هل عندك من لَبَنٍ فَتَسْقِيَنا؟ قُلتُ: إني مُؤْتَمَنٌ، ولَسْتُ أسْقيكُما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من جَذْعَةٍ لم ينْزُ عليها الفحل؟ (أيْ غَنَمة ليس فيها لبن) قلتُ: نعم فأتَيْتُهما بها، فاعْتَنَقَها النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح الضرع، ودعا فَحَفَل الضَّرْعُ، - وهذا من مُعْجِزات النبي صلى الله عليه وسلم- ثمّ أتاهُ أبو بكرٍ بِإناءٍ فاحْتَلَبَ بها، فَشَرِبَ أبو بكْرٍ، ثمّ شَرِبْتُ))
الاسْتِنْباط الأول: أنّ هذا الصحابيّ الجليل وهو غُلامٌ يافِع أدْرك بِفِطْرَتِه أنّ هناك شيءٌ يجوز، وهناك شيءٌ لا يجوز، وهذا يُؤكِّدُ قوْل النبي صلى الله عليه وسلم:
((خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا))
فما من أخٍ مؤمن إلا وله مواقف أخْلاقِيَّة في جاهِلِيَّتِه قبل أنْ يتوب إلى الله، وهذا هو معنى قوْل النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
(( تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا, وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً, وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَيَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ))
ما قيل في ابن مسعود :
وعن أبي موسى الأشْعري, قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله .
أنا أُقْسِمُ لكم بالله أنَّ بين الأخوة المؤمنين مِن المَحَبَّة والمَوَدَّة ورفْعِ الكُلْفة والثِّقة والطُّمأنينة والاسْتِسلام والانْدِماجِ أشَدُّ مما بين الأقارب، وأشَدُّ مما بين الأخ وأخيه، والعلاقة نَسَبِيَّة هذا قانون، وأنا في هذا الدرس إنْ شاء الله تعالى يَعْنيني أكثر ما يعْنيني اسْتِنْباط قواعد في الإيمان
يقول أبو موسى الأشْعري:
((رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله))
فكلَّما ازْداد إيمانُ أحدكم ازْدادَ حُبُّهُ لأخْوانه, وازْدادَتْ خِدْمته لهم, وازْداد تَعَلُّقُهُ بهم, وازْدادتْ شَفَقَتُهُ عليهم, وازْداد نُصْحُهُ لهم، يجب أنْ يكون المؤمنون كُتْلَةً واحدة وجسداً واحداً إذا اشْتكى منه عُضْوٌ تداعى له سائِرُ الجَسَد بالسَّهَر والحُمى .
سيّدنا أبو موسى الأشعري, يقول:
((رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أرى إلا ابن مسْعودٍ من أهْله))
فمن أهْلُكَ؟ هم المؤمنون، وهذا معنى قولهم:
((رُبَّ أخٍ لك لم تلِدْهُ أُمُّكَ))
استنبط من قَوْل النبي في حقِّ الجار إذا اسْتعانَ بك أَعَنْتَهُ, وإنْ اسْتَنْصَرَك نصَرْته، وإن اسْتَقْرَضَك أقْرَضْته، وإنْ أصابهُ خيرٌ هَنَّأْته، وإن أصابَتْهُ مُصيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، ولا تَسْتَطِل عليه بالبناء فَتَحْجُبَ عنه الريح إلا بِإذْنه، وإذا اشْتَرَيْتَ فاكِهَةً فأهْدِ له منها، وإنْ لم تفْعل فأَدْخِلْها سِرًّا، ولا يخْرُجْ بها ولَدُكَ لِيَغيظَ ولَدَهُ، ولا تؤْذِهِ بِقُتارِ قِدْرِك إلا أنْ تَغْرِفَ له منها، فإذا كان هذا حَقُّ الجار، وقد يكون الجار ليس مُسْلِماً، فَكَيْفَ بحقِّ المؤمن؟! وكيف بِحَقِّ الأخ في الله؟ لِذلك علامة قَبول ما عند الله مَحَبَّتُنا، وتواضُعُنا، وتضْحِيَتُنا، وإيثارُنا، وذْلُنا، وتواصُلُنا، وتناصُحُنا .
عن القاسم بن عبد الرحمن, قال:
((كانَ عبدُ الله يُلْبِسُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نَعْلَيْه, ثمّ يمْشي أمامه بِالعصا, حتى إذا أتى مجْلِسَهُ نزعَ نعْلَيْه, فأدْخَلَهما في ذِراعَيْه, وأعْطاه العصا, فإذا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوم ألْبَسَهُ نعْلَيْه, ثمّ مشى بِالعَصا أمامه, حتى يدْخُل الحُجْرة قبل النبي))
الأدلة من الكتاب على أن حب النبي هو عين حب الله :
أنا أقول لكم: إنَّ حُبَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو عَيْنُ حُبِّ الله، وإنَّ حُبَّ الله عز وجل عَيْنُ حُبِّ النبي، وإنَّ طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي عَيْنُ طاعة الله، وإنَّ طاعة الله عز وجل هي عَيْنُ طاعة النبي، والدليل قوله تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
وقوله تعالى:
﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾
بِضِميرِ المُفْرَد الغائِب، ولم يَقُل: يُرْضوهُما، ونُضيفُ شيئاً وهو أنّك إذا أحْبَبْتَ الله والنبي حُباً جماً، وألْغَيْتَ ذاتك نِهائِياً، شَفَفْتَ عن حقيقة رسول الله، لذلك: كان النبي صلى الله عليه وسلم, يقول: فيما روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ:
((اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ))
والإسْلام بلا حُبٍّ جسَدٌ بلا روحٍ، وورد في بعض الأقْوال:
((ألا لا إيمانَ لِمن لا حُبَّ له))
وهل للحُبِّ دليل؟ هناك مئة دليل، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾
وقال تعالى :
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾
فمن هَوِيَ الكَفَرَة حُشِرَ معهم، ولا ينْفَعُهُ عملهُ شيئاً، قلبُكَ أين هو؟ سوْفَ تَرَوْنَ أيها الأخوة, أنَّ أصْحاب النبي عليهم رضْوان الله أحَبُّوا النبي حُباً يفوقُ كُلَّ التَّصَوُّر، افْتَدَوْهُ بِأموالهم وأوْلادهم وأرْواحِهم، ماتَ أبوها وابنُها وزوْجُها وأَخوها، وتقول: ما فَعَلَ رسول الله إلى أنْ رأَتْهُ؟ فقالت: يا رسول الله كُلُّ مُصيبَةٍ بعْدك جَلَلٌ، لا قيمة لها، هذه امرأة .
كيف نعبر عن حبنا لله ولرسوله في هذا الزمان ؟
أيها الأخوة, نحن في هـذا الزمان كيف نعبِّر عن حبِّنا؟ كيف نعبِّر أننا نُحب الله أكثر من كل شيء؟ لا يوجد جهاد، نحن في الحياة المدنية الآن؛ هذا مُدرِّس، هذا طبيب، هذا صانع، هذا صاحب مصلحة، هذا تاجر, هذا صاحب معمل، هذا طالب مدرسة، هذا طالب جامعة، هذا متزوج, هذا غير متزوج، كيف يعبر أحدنا عن حبِّه لله عزّ و جل؟ بتطبيق أمر الله، وتطبيق أمر الله سَهْلٌ يسير .
هناك نقطة دقيقة: ربنا عز وجل يخْلق ظروفًا للمؤمن، ويضعِفُه أمام خِيارٍ صعْبٍ، شيءٌ يُرضي الله، ولكن يضرّ بِمَصْلَحَته، صفْقَةٌ رابحة، لكن فيها شُبْهَة، فإذا أَمْضَيْتها أثْبَتَّ أنك تُحِبّ المال أكثر من حُبِّك لله ورسوله، وإذاَ رفَضْتها أثْبتَّ أنك تُحِبّ الله ورسوله أكثر من هذه الصَّفْقَة، وفي حالة البَحْبوحة والرخاء طاعة الله سهْلة؛ أغُضُّ بصري، لكن هناك ظروف تضَعُك أمامَ خِيارين صعبيْن, الدنيا هنا، وطاعة الله هنا، ولولا أنَّ الله عز وجل يضعُكَ أمام هذين الظرْفَين، وأمام خِيارٍ صعْبٍ لأصْبَحَت الجنَّة سهْلة، وهناك آية تدلّ على ذلك، قال تعالى:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
فلا بدّ من الابْتلاء، ولا بد من أن توضَعَ في ظرفٍ، فإما أن تخْتار رِضى الله عز وجل، وإما أنْ تخْتار الدنيا، والآية التي أكثر دلالةً, قوله تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
ففي الحياة المدَنِيَّة, كيف نًؤكِّدُ حُبَّنا لله عز وجل؟ إذا امْتُحِنا وابْتُلينا فوُضِعْنا أمام ظرْفين، أحْياناً زوجَتُك وأُمُّك – هذا أقرب مثل – وأُمُّك مُتَقّدِّمة في السِّن، والإنسان لما يتقدَّم في السِّن يُرَدُّ إلى أرْذل العُمُر؛ تفْكير ضعيف، تدَخُّل شديد، طلبات غير معْقولة، سَيْطرة وإحْكام القبْضة، فكُلّ سعادَتِك مع زوْجَتِك،ِ وأُمُّك عِبءٌ عليك، لكنَّ الذي يُرْضي الله يبَرَّ أُمَّه، ولا يضَيِّعَ حقَّ زوْجَتِه، فالبُطولة أنْ تقف المَوْقِف الكامل .
إذًا: أنت دائِماً توضَعُ في امْتِحانات صعْبة، فإما أن تؤكِّد أنَّك تُحِبّ الله ورسوله أكثر من حبِّك الدنيا، وإما أن تؤكِّد أنك تحب الدنيا والمال والزوجة والعشيرة والأهل والابن والتجارة والمسكن، فلو كنت في مسكنٍ فخمٍ مستأجراً، وبقاؤك في المسكن شيء مريح، والأجرة رمزية، والقانون إلى جانبك، ويوفِّر لك الحماية؛ فإنْ كنتَ ممَّن يُؤْثر مرضاةَ الله عز وجل أعطيتَ هذا البيت لأصحابه، نمتَ قرير العين، إذاً: أنت ممتحن، في تجارتك، في صناعتك، وقد تدخل مادة في صناعتك غير شرعية، تقول لك نفسك: الخُبز يُطْبخُ الآن، فَدَعِ الأمور تسير, وهناك رواج سريع، والمؤمن يخاف الله عز وجل، ولا يفعل هذا، فالقصد أنَّ حبَّك لله عز وجل، شئت أم أبيت ، ولا بد أن يظهر، أو لا يظهر من خلال الامتحان .
أمثلة من الواقع على امتحان الرب للعبد :
فهناك سؤال: هل نحن نمتحن أو لا نمتحن؟ لا بد أن نمتحن، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
أحيانا تعرض البيت للبيع خمس سنوات، وثمنُه ثلاثة ملايين، فوافقت على بيعه، وحصل هناك عقد، ثم يبعث الله لك بعد يوم أو يومين شخصا يعِرض عليك شراءه بثلاثة ملايين ونصف، هذا امتحان، فإما أن تنجح فيه وإما أن تسقط، ونجاحك هو أنك قد بعت البيت بمبلغ ثلاثة ملايين، وتم البيع، وكتِب العقد، ورسوبك أن تلجأ حيلة، تقول له: ما رضيتْ الزوجة، أو ابني عارضني، فأنت ممتحن في البيع والشراء، وفي كل شيء أنت ممتحن، إما أن يظهر أنك تحب الله ورسوله أكثر من كل شيء، وإما أن تثبت أن أي شيء من الدنيا أغلى عندك من الله ورسوله، وهذا الامتحان واقع لا محالة، وربنا عز وجل فعَّال لما يريد, فأحيانا يبعث لك عرضا مغريا، وأحيانا أخرى تقع في مشكلة، والأبواب كلها مغلقة إلا باب الشبهات، ولا بد أن تأخذ قرضا بفائدة . أحد أخواننا الكرام, في أول حياته التجارية يملك بيتا صغيرا، وعرض عليه بيتٌ بثمنٍ مغر، وهو تاجر، ولكن المبلغ غير متوافر لديه لشرائه، وكانت معه سندات مالية، ذهب إلى أحد المصارف، وكان مدير المصرف نصرانيا، فقال: اخصم لي هذه السندات، (علماً أن هذا ربا معكوس)، فنطق مدير هذا المصرف قائلاً: يا أبا فلان، أنت مسلم، وهذا حرام في ديانتك، فقال: كأنه صفعني، أنا أتلقى النصيحة من إنسان غير مسلم، وفي ديني!
قال: والله عندها بكيتُ، فخرجت وأنا أنزل الدَرَج, وأقول: والله يا رب، لا أريد هذا البيت، وسأبقى في بيتي، ولن أعصيك ، وانتقل من المصرف إلى محلِّه بالحريقة، وما أن وصل إلى محله حتى فوجئ بصديق له ينتظره ، لم يره منذ زمن، فقال له: أين أنت يا أبا فلان؟ لقد انتظرتك نصف ساعة، إني ذاهبٌ إلى الكويت، ومعي ستون ألف ليرة سورية، اتركها عندك، وأُنشدك الله أن تستعملها عند حاجتك لها، فالردّ جاء بعد نصف ساعة، أنت قُلْتَ: يا رب لا أريد البيت، ولا أعْصيك، فهل يتْرُكُك الله؟.
أيها الأخوة, الامتحان لا يطول، إلا أنّ الله يحِبّ منك هذه الكلمة: يا رب لن أعْصِيَك، هذه الدنيا تحت قدمي، فإذا جاءك الشيطان, وقال لك: أنت إذا لم تسْلُك مسْلَكَ الرِّبا فسَتُصْبِح في الطريق، قُل: لا أعْصي الله، ولن يُضَيِّعني، فهذا هو المؤمن، والمنهج مُقَدَّسٌ عنده، وطاعة الله أغلى شيءٍ عند المؤمن .
انظر إلى خدمة ابن مسعود لرسول الله , علام يدل ؟
سيّدنا ابن مسْعود كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكان يوقِظُهُ صلى الله عليه وسلّم إذا نام، ويسْتُرُهُ إذا اغْتَسَل، ويمْشي معه في الأرض وحْشاً, أيْ مُنْفَرِداً, وبالمناسبة هناك أشْخاص إذا رأوا من يُعَلِّمُونهم دائِماً على المِنْبر ووراء كُرْسي التدْريس وبِثِيابِهِ الأصوليَّة، يجد أن الأمر على التمام.
أما إذا ذهب في نُزْهَةٍ معه، ورأى شَيْخَهُ قد نام أو أكل، وجد في ذلك ضيقًا، وكأنَّ شَيْخَهُ ينبغي ألاّ يأكل وألاّ ينام، اُنْظر إلى سيّدنا ابن مسْعود كان صاحب الوِساد والسِّواك والنَّعْلين، يا عبد الله أين السِّواك؟ تجِدُهُ مُلَبِّيًا، فالإنسان له حياةٌ خاصَّة، ومهما كانَ عظيماً ؛ فهو ينام ويجوع ويأكل ويعطش ويغْضب, اللهم إني بشر، أغْضب كما يغْضب البشر، اللهم إني بشر أنسى كما ينسى البشر، فكلما ارْتقى الإنسان بإيمانه لا تؤثِّرُ عليه الأمورُ الخاصَّة .
وعن عبد الله بن زيدٍ, قال:
((أَتَيْنا حُذَيْفة, فقُلْنا له: حدِّثْنا بِأقْرب الناس لِرَسول الله هَدْياً وسَمْتاً؛ لِنَأخذ عنه ونسْتَمِعَ عنه، فقال عبد الله بن زيدٍ: كان أقرب الناس لِرسول الله صلى الله عليه وسلم هدْياً وسمْتاً عبد الله بن مسْعودٍ))
أيها الأخوة, نحن كَمُؤْمنين لنا المثَلُ الأعلى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فالمؤمن العَنيف والقاسي الذي لا يَتَحَمَّل، يضْرب ويَسُبُّ, فهو إذًا ليس مُقْتَدِياً بِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم، نحن إذا أخَذْنا السيرة، وقرأْناها إنما للاقْتِداء به صلى الله عليه وسلَّم، والاسْتِفادة منه .
المرتبة الإيمانية التي حازها ابن مسعود من رسول الله :
فاسمعوا ثناءَ النبي عليه الصلاة والسلام على عبْد الله بن مسْعود، عَنْ عَلْقَمَةَ, قَالَ:
((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِعَرَفَةَ, فَقَالَ: جِئْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكُوفَةِ, وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلًا يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ فَغَضِبَ وَانْتَفَخَ حَتَّى كَادَ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ شُعْبَتَيْ الرَّحْلِ, فَقَالَ: وَمَنْ هُوَ وَيْحَكَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَمَا زَالَ ينطفئ وَيُسَرَّى عَنْهُ الْغَضَبُ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا, ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ, وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَسْمُرُ, (أي يسهر), عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ كَذَاكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ, وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا مَعَهُ, فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ, فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ, فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَلَمَّا كِدْنَا أَنْ نَعْرِفَهُ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ؟ قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ الرَّجُلُ يَدْعُو فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ لَهُ: سَلْ تُعْطَهْ, سَلْ تُعْطَهْ, قَالَ عُمـَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَغْدُوَنَّ إِلَيْهِ فَلَأُبَشِّرَنَّهُ, قَالَ: فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ لِأُبَشِّرَهُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ, وَلَا وَاللَّهِ مَا سَبَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا وَسَبَقَنِي إِلَيْهِ))
لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يسْتمع إلى قِراءَتِهِ، ويطْرب لها، مع أنَّ القرآن أُنْزِل عليه، وبالمناسبة أقول لكم: كلما ارتقى حالك طربْتَ لقراءة القرآن، وكلكم يعلم هذه الحقيقة، فأحيانا تقرأ القرآن فلا تجد طلاقة، ولا تجد انسيابا وطربا وشوقا وترنُّما، أحيانا تقرأ القرآن تطرب أنت لصوتك, و قد يكون صوتك عاديا، حدثني مرّة أخٌ أنّ منشدا كان لا ينشد إلا بدرهم، و لا يسكت إلا بدينار، البداية بدرهم، أما السكوت فبدينار، وهذا صوته معروف، فالمؤمن إذا كان صافي القلب و إذا كان له عملٌ طيِّبٌ، له قراءة شجيّة يطرب لها هو قبل غيره، فقرّاء القرآن لهم ساعات صفاءٍ، و ساعات تحليق وتجل، فالساعات النادرة عند قراء القرآن يكون فيها تجلٍّ من الله عز وجل, فقال عمر: والله لأغدوَنّ عليه فلأبشِّرنه، قال: فغدوت عليه فبشّرته، فإذا أبو بكر قد سبقني إليه فبشّره، كم هم يحبون بعضهم بعضا؟
إذا جاء أخاك خبرٌ طيّبٌ من رسول الله، فرأسا بشِّره به، وبالمناسبة فما علاقتنا بالموضوع؟
أحيانا يرى الإنسان رؤيا طيِّبةً، رؤيا صالحة، فلْيقصُّها على أخيه ولا يسكت عنها، لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستٍّ وأربعين جزءاً من النبوّة ، يراها المؤمن أو تُرى له، فإذا رأى الإنسانُ رجلاً مؤمنًا يحبُّه في حالة مع الله طيِّبة، في مظهر يرضي، برمزٍ واضحٍ فلا يسكت عن ذلك، هذه بشرى من الله عز وجل .
فعَنْ أُمِّ مُوسَى, قَالَتْ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِي اللَّه عَنْهُ, يَقُولُ:
((أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَصَعِدَ عَلَى شَجَرَةٍ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ فَنَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَعِدَ الشَّجَرَةَ فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوشَةِ سَاقَيْهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَضْحَكُونَ لرجل عَبْدِ اللَّهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ))
شهادتا عمر وعلي لابن مسعود بالعلم :
فسيّدنا عُمَر أيها الأخوة، خرج من المدينة لِيَسْتَقْبِلَ بِلالاً, وكان أصْحابُ النبي صلى الله عليه وسلَّم عليهم رِضْوان الله إذا ذكروا بِلالاً، أو إذا ذكروا الصَّديق, قالوا: هو سيّدُنا وأعْتَقَ سيِّدَنا، أحْياناً أهْل الفجور وأهل الدنيا ينقدون المؤمنين أنهم لا ينْطِقون باسمٍ لِصَحابي إلا ويَقولون سيّدنا، أما الكُتاب العادِيِّين, يقولون: جاءَ مُحَمَّد -هل تظنّ أنه رفيقك؟- قُلْ: سيّدنا محمّد، والله يا أخواننا, هذا شخص مُسْلِم ابن مُسلم زارَ مصرَ, يقول لِشَخْصٍ آخر: أين قبر محمّد؟ فقيل له: أنت بِمِصْر، فقال: أو ليس قبْرُهُ هنا؟ قال لي هذا الكلام: شخْصٌ أثِقُ بِكَلامه, فالصحابة الكِرام كانوا يقولون عن سيّدنا أبي بكر: هو سيّدُنا وأعْتَقَ سيِّدَنا، أيْ بلالاً، فسيِّدُنا عمر كان جالِساً، فَجاء ابن مسْعود فقال رضي الله عنه: إنَّهُ رجُلٌ ملئ عِلْماً، أحْياناً الإنسان يتَعَلَّم, يحضر مجالس العِلم بالتفْسير والحديث والسيرة، ويحضر خُطب الجُمُعة، ويقْرأ ويُطالع حتى يشْعُر أنّ كلّ خَلِيَّةٍ في جسمِهِ تنْطِق بعلم، فمرْتَبَةُ العِلم مرْتَبَةٌ عاليَة، ولن تعْرِفَ مرْتبة عِلْمِك حتى تُجالِس جاهِلاً .
أذكرُ مرةً كُنت أوَدُّ أنْ أُسافر إلى بلدٍ، فكان لي قريبٌ قد سافر إلى البلد الذي أقصده بِسَيارَتِهِ الشَّخْصِيَّة، فَعَرَضَ عليَّ, فَقُلْتُ: لا مانع من صحبتك، فَرَكِبَ بجانبه صديق له من كِبار التُّجار، لكنَّهُ من الجَهْل بِمَكانٍ كبير، فأنا رَكِبْتُ واسْتَمَعْتُ طوال الطريق إلى حديثهما؛ حينما وَصَلْنا إلى البَلْد الذي نقصده بعد خمْس ساعات، تَمَنَّيْتُ أنْ آكلَ خُبزاً يابِساً طوال حياتي، ولا أكون بِهذا الجَهْل الذي يتمتَّعُ به هذا الغَنيّ! سُخْف على ضيق أُفُقٍ، وعلى أنانِيَّة، وعلى جَهْلٍ مُطْبِق، لكِنَّهُ غنِيٌّ .
فاعلموا أنّ رتبة العلم أعلى الرُّتب، فلذلك الكفاءة في الزواج مطلوبة، فالذي عنده فتاة مؤمنة تعرف علوم القرآن والسنّة، وتُجيدُ دراسَتهما, فلا يتوَرَّط ويُزَوِّجها رجلا جاهِلاً، بهذا يكون قد قتلها, لأنّ الشهرة هي كُلّ شيءٍ في حَياته، فهذه لا بد لها من زوجٍ مؤمنٍ راقٍ يعْرف قيمتها، وقيمة دينها وقُرآنها، جاءَتني رسالة عن الخُطبة الإذاعِيَّة الأخيرة، فتاةٌ من الحَسَكَة، فَبَعَثَتْ رسالة إلى جامع النابلسي فَقَرَأْتها, فقالت: لي مُشْكِلَة فهل تُوافق أن أَعْرُضها عليك؟
فقلتُ: فأخبرتها أني مُوافق، عندها جاءَتْني رِسالة مُطَوَّلَة, فتاةٌ مؤمنة حافِظة لِكِتاب الله، وهناك رجُلٌ ضرير، كذلك مؤمن تطَوَّعَتْ أنْ تتزَوَّجَهُ, طبْعاً أنا أكْبرتُ هذا المَوْقف، إذْ إنَّ هذا الضرير لعلّ له شأنًا عند الله عز وجل، وفتاةٌ تامَّةُ الخلق، ومن أُسْرة، ولكنّ أرادَتْ أنْ تُضَحي، وأنْ تكون زوْجَةً لِهذا الضرير، فهذا الضرير أسْكنها في بيْتٍ صغير، وأهل هذه الفتاة أصروا على أنْ ترفضه، وأنْ تعود إليهم، وهي مُصِرَّة على أنْ تبْقى معه، وتسألني ماذا أفعل؟ قُلْتُ: والله هذه بُطولة, امْرأةٌ تحفظ كتاب الله عز وجل, واخْتارَتْ رجلاً ضريراً مؤمناً، طبْعاً هي لم تخْتَرْهُ لأنه ضرير فقط، وإنما لأنه مؤمن، فالمرأة الصالحة العالمة لو أننا أردْنا أنْ نُقَدِّر دينها لكانَ مهْرُها مئة مليون أو أكثر, لأنها تحْفَظ دينك وأولادك، والعبرة أنَّ جَمْعَ الجاهل مع العالم أمْرٌ صَعْبٌ .
لقِيَ سيّدنا عمر ركْباً في سفَرٍ له فيهم عبد الله بن مسْعود، فأمَرَ عمرُ رجُلاً يُنادِيهم، من أين القَوْم؟ فأجابه عبد الله: أقْبَلْنا من الفجِّ العميق، فقال عمر: وأين تُريدون؟ قال عبد الله: البيتَ العتيق، قال عمر: إنَّ فيهم عالِماً من كلّ فجٍّ عميق أرادوا البيتَ العتيق، وأمر الرجل فناداهم, وقال له: سَلْهُم أيُّ القرآن أعْظم؟ فأجابه عبد الله: الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم، ثمّ ناداهم: أيُّ القرآن أحْكم؟ قال: إنّ الله يأمر بالعَدْل والإحْسان، فناداهم: أيُّ القرآن أجْمع؟ قال: فَمن يعْمل مثقال ذرةٍ خيراً يره, ومن يعْمل مثقال ذرّةٍ شراً يره، قال: نادِهِم، أيُّ القرآن أخْوَف: ليس بِأَمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْل الكِتاب من يعمل سوءًا يُجْزَ به، قال عمر: نادِهـِم، أيُّ القرآن أرْجى؟ قال ابن مسْعود : يا عِبادِيَ الذين أسْرفوا على أنْفسهم لا تقْنطوا من رحمة الله، فقال عمر: نادِهِم، أفيكم ابن مسْعودٍ؟ قالوا: نعم. فالذي اسْتَوْعَبَ القرآن كلَّه, إنّه لعالِم، فالماهر بالقرآن مع النبيّين والصِّديقين يوم القِيامة .
سئِلَ عليٌّ كرَّم الله وجْهه عن أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم, فقال:
((عن أيِّهم تسْألون؟ فقالوا: أخْبِرنا عن سيّدنا عبد الله بن مسْعود, فقال سيّدنا عليّ: علم القرآن وعلم السنَّة ثم انتهى، وكفى به عِلْماً))
إذا الإنسان درس القرآن وتعلَّمَهُ، ففيه كلُّ شيءٍ وهو كلامُ خالق الكَوْن، وهو الكِتاب المُقَرَّر، وحبْل الله المتين، والنور المُبين، والصِّراط المُسْتقيم .
أقوال أخرى للصحابة يبينون فضل علم هذا الصحابي الجليل :
حينما مات هذا الصحابيّ الجليل، كان الصحابة يسْألون: أترك مثلهُ؟ وكان الجواب: لا، فسيّدنا أبو موسى الأشْعري, قال:
((لا تسألوني عن شيءٍ مادام هذا الحَبر فيكم))
فإذا سُئِلَ الإنسانُ وكان من هو أعلمُ منه فالأدَبُ ألاَّ يجيب، أحْياناً يكون في الجلسة طبيب، ويسأل مريض سؤالاً، فإذا بك تجد من يجيب والطبيب أمامه, اِحْتَرم الطبيب، فأنت لا شيءَ أمامه، أحْياناً السؤال شرْعي وتجد من يتجرَّأُ ويجيب, هذا سوء أدب، والمفْروض إذا وُجِد من هو أعلم منك, تقول: سلْ فُلاناً، لذلك سيّدنا أبو موسى الأشْعري, قال:
((لا تسألوني عن شيءٍ مادام هذا الحَبر فيكم))
يُسْتَنْبَط من هذا الكلام أنّ أصْحاب النبي كان يعْرف أحدهم حقَّ الآخر، والمؤمنون يتعاوَنون، ولا يتنافَسون، ولا يتحاسدون, ولا يتباغَضون، وأجمل منظر أراهُ في حياتي حينما أجد الدعاة إلى الله مُتعاوِنين، ويَحْترمُ بعْضهم بعْضاً، ويُجِلُّ بعضهم بعضًا، ويتعاوَنون على مصْلحة المسْلمين العامة، أما حينما أراهم يتنافسون ويتحاسَدون ويتراشقون التُّهَم، وكُلُّ واحدٍ منهم يرى أنَّهُ هو الإمام في الدين، وأنَّ الله جلّ جلاله له وحْده، وأنَّ جماعته هم على الحقّ، وأنهم هم الفرقة الناجِيَّة، وما سِواهم إلى النار, فهذه نظْرة سخيفة، فيجب أن يكون انْتِماؤُك إلى جميع المؤمنين، وكلُّ إنسانٍ عقيدته صحيحة، وسٌلوكُهُ مُنْضَبِط فهُو على عَيْني ورأسي، واْحتَرِمُهُ وأُجِلُّهُ .
وعن شقيقٍ, قال: كنت قاعِداً مع حُذَيْفَة, فأَقْبل ابن مسْعودٍ: فقال حُذَيْفَة:
((إنَّ أشْبه الناسِ هَدْياً برسول الله صلى الله عليه وسلّم من حين يخْرجُ من بيْتِهِ إلى أنْ يرْجِع، ولا أدري ما يصْنع في أهْله لَهُوَ عبد الله بن مسْعودٍ؛ ووالله لقد عَلِمَ المَحْظوظون من أصْحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلّم أنّ من أقْربهم إلى الله تعالى وسيلَةً يومَ القِيامة هو عبد الله بن مسْعودٍ))
ماذا يقول ابن مسعود عن نفسه ؟
يقول سيّدنا عبد الله بن مسْعودٍ عن نفْسه:
((والله الذي لا إله إلا هو، ما نزلَتْ آيَةٌ في كِتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلَتْ، وفيمَا نزَلَتْ، ولو أعلم أنَّ أحداً أعلم بِكِتاب الله منِّي تنالُهُ المَطِيُّ لأتَيْتُهُ))
فما مِن آيةٍ إلا وهو يعلم أين نزلت؟ وفيما نزلت, ومتى نزلتْ, هذا هو المؤمن، إما أنْ تعرف، وإما أنْ تتعلم على من يعرف، وإياكَ أنْ تتكَبَّر، أما ألاّ يتعلَّم يدَّعي المعْرفة فهذا شيْطان، ومن الناس من يدْري ويدْري أنَّهُ يدْري فهذا عالمٌ فاتَّبِعوه، ومنهم من يدْري ولا يدْري أنه يدْري فهذا غافِلٌ فنَبِّهوه، ومنهم مَن لا يدْري ويدْري أنه لا يدْري فهذا جاهِلٌ فَعَلِّموه، ولكنْ أخْطر واحد أنَّ منهم مَن لا يدْري ولا يدْري أنَّهُ لا يدْري فهذا شيْطانٌ فاحْذَروه، وهذا نِصْف العالِمِ، وهو خطيرٌ, لا هُوَ عالمٌ فيَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ، ولا هو جاهِلٌ فَيَتَعَلَّم .
انظر إلى حسن تصرفه مع جسده حتى لا يضيع حق الله عليه :
قال تميمُ بن حَذْلَم:
((جالَسْتُ أصْحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم, وما رأيْتُ أحداً أزْهَدَ في الدنيا، ولا أرْغَبَ في الآخرة، ولا أحَبَّ إليَّ أنْ أكون فيه مِن والِهٍ منك يا عبد الله بن مسْعود ، جالَسْتُ أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فَوَجَدْتُهُم كالإيخاذ, والإيخاذ يرْوي الرَّجُل والرَّجُلَيْن والإيخاذ يَرْوي المئة، والإيخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصْدرهم ؛ فَوَجَدْتُ عبد الله من ذلك الإيخاذ))
فهناك مُجَمَّعُ ماءٍ يرْوي شَخْصاً واحداً، وهناك مُجمَّع يرْوي المئة، وجمّع آخر يروي ألفًا، ومجمع لو جاء أهل الأرض كلهم لارْتَوَوا منه، فابن مسْعودٍ من النوع الأخير .
قال عبد الله بن يزيد:
((ما رأيْتُ فقيهاً قطّ أقَلَّ صَوْماً من ابن مسْعودٍ، فقيلَ له: لمَ لا تصوم, فقال: إني أخْتار الصلاة على الصوم، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة))
فَكُلّ شخْصٍ له مزاجُهُ، أحْياناً تجد شخْصاً يتوافق مزاجُهُ مع الصِّيام، وبِالمُقابل تجد أنَّ الآخر إذا صامَ تعَطَّل عن كُلّ أعْماله وتُجَمَّدُ، ولا يسْتطيع أنْ يفْعل شيئاً, فَسَيِّدُنا ابن مسْعودٍ كانَ واقِعِياً: إني أخْتار الصلاة على الصوم، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة، يبْدو أنَّ تِلاوَتَهُ وقِراءَتَهُ وصلاته وعمله الصالح لا ينْشط لها إلا وهو في الإفْطار، لذلك كان أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في سَفَرٍ، بعضُهُم صام وبعضهم الآخر أفْطر, وأجْمَلُ شيءٍ في هَذه الرِّواية, قال: إنَّ الذين صاموا لم يأخُذوا على الذين لم يصوموا، والذين لم يصوموا لم يأخذوا على الذين صاموا، أما الآن إذا صام أحدُهُم عاشوراء، كلما الْتقى بِشَخْصٍ, يقول له: ألَسْتَ صائِماً اليوم؟ ألَسْتَ كذا وكذا؟ يُشْهِّر نفسه في هذا اليوم، ويرى أنَّ من لم يَصُمْهُ كأنَّهُ قد ارْتكب جريمة, وهناك أشْخاص ألَمَّ بهم المرض، وآخرون مُتْعَبون، وذاك معه قَرْحَة في المِعدة، فَكُلُّ واحدٍ له وضْعُهُ الخاص، فلا تتَدَخَّل، أنت عليك الفرائِض، فإذا وَجَدْته في رِمَضان مُفْطِراً فعليك أنْ تُؤاخِذَهُ، أما فيما عداه فَكُلُّ جِسْمٍ له مزاج ووضْع، هناك أعْمالٌ شاقَّة، اُنْظر إلى سيّدنا عبد الله بن مسْعود, قال: إني أخْتار الصلاة على الصوم، فإذا صِمْتُ ضَعُفْتُ عن الصلاة .
سؤال وجه إلى ابن مسعود :
مرَّ أحد الصحابة بِسَيِّدِنا عبد الله بن مسْعودٍ بِسَحَرٍ, وهو يقول:
((اللهمّ دَعَوْتني فَأَجَبْتك، وأَمَرْتني فَأَطَعْتُك، وهذا سَحَرٌ فاغْفِرْ لي))
ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:
((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ, فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟))
وهذه نصيحَتي لكم جميعاً, إذا ضاقَتْ الأُمور، وتريد من الله عطاءً أو فَرَجًا، وكانت الأمور مُعَسَّرة، فعليك ثُلُثُ الليل الأخير:
((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ, فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟))
قال ذلك الصحابيُّ الذي سمع ابنَ مسعود يدعو سحَرًا:
((فلما أصْبَحْتُ غَدَوْتُ عليه وسألته، فقال: إنَّ يعْقوب لما قال لِبَنيهِ سوف أسْتَغْفِرُ لكم أخَّرَهُم إلى السَّحَر- اُنْظر إلى الفَهْم الدقيق- سيّدنا يعْقوب, قال: سوف أسْتغْفر لكم ربي, ولماذا لم يقُل: سوفَ أسْتغفر لكم الآن؟ قال: لأنَّهُ يعْلم أنَّ وقْتَ السَّحر وَقْتَ إِجابة))
ولذلك دعا ابن مسعود في السَّحَر, قائلاً:
((اللهمّ دَعَوْتني فَأَجَبْتك، وأَمَرْتني فَأَطَعْتُك، وهذا سَحَرٌ فاغْفِرْ لي))